تنظيم علماء السلطان
لما وليّ الصديق أبوبكر رضي الله عنه الخلافة قام في الناس خطيباً فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد أيها الناس، فإني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني..
إلى أن قال: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم. كانت هذه أول كلمات للصديق فور توليه أمر الناس، مبيناً في ثناياها أنه وُليَ على الناس ليس لأفضليته عليهم -تواضعاً منه إذ شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالأفضلية- وأنه إن توَسد الأمر قد يطرأ عليه النسيان أو الخطأ، فيحتاج إلى النصح إن أخطأ والتنبيه أن نسي، ثم وضع قاعدةً ينبغي لكل من تولي أمر الناس أن يضعها نصب عينيه “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم” حتى لا تتكبر نفس من تولى أمراً وتغتر بما تقلدت من منصب وبما أوتيت من جاه.
من تأمل في هذه الكلمات يتبينُ له أن أولى الناس الذين يشملهم خطاب الصديق “وإن أسأت فقوموني” هم أهل العلم والدراية، من آتاهم الله فقهاً وعلماً، لأنهم أعرفُ الناس بالحلال والحرام بالمتشابه والمُحكم، بالمسائل القطعية والخلافية. فلما كان هذا حال من يتولى أمر الناس يقرب البطانة الصالحة ويضع نفسه موضع المُكلفِ لا المُشرف كانت قضايا الأمة ومشاكلها تحل بمشورتهم. لذلك لما مرض أبو بكر الصديق رضي الله عنه مرضه الذي مات فيه قال: انظروا ما زاد في مالي منذ دخلت الإمارة فابعثوا به إلى الخليفة بعدي، قالت عائشة رضي الله عنها: فلما مات نظرنا فإذا عبد نوبي كان يحمل صبيانه، وناضح كان يسقي بستانا له فبعثنا بهما إلى عمر فقال رحمة الله على أبي بكر لقد أتعب من بعده.
تنظيم علماء السلطان
“هكذا كان سلطان الإمارة يقف من خلفه سلطان العلم”
كان العلماء الربانيون يصدحون بالحق، ولا تأخذهم فيه لومة لائم، فحفظوا للعلم هيبته وسلطانه.. إذا أستشارهم الحاكم العادل وطلب نصحاً بذلوه، وإذا توعدهم الظالم ثبتوا على الحق وجهروا به.. أيضا علموا أن الله خصهم دون سواهم بعلم علمه إياهم، وحملهم على عاتقهم أمانة عظمت معها مسؤوليتهم.. فحفظوا عهد الله ببيان ما ولاهم إياه
“وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ”
فهذا هارون الرشيد رحمه الله يطلب من الفضيل بن عياض رحمه الله أن ينصحه،.. كذلك وأن يشير عليه فقال له الفضيل: إن عمر بن عبدالعزيز .. لما ولي الخلافة دعا سالم بن عبدالله ومحمد بن كعب القرظي ورجاء بن حيوة.. أيضا فقال لهم: إني قد ابتليت بهذا البلاء، فأشيروا عليَّ: فعد الخلافة بلاء،. وعددتها أنت وأصحابك نعمة. فقال له سالم بن عبدالله: إن أردت النجاة من عذاب الله فصم الدنيا.. وليكن إفطارُك منها الموت.. كذلك وقال محمد بن كعب: إن أردت النجاة من عذاب الله فليكن كبير المؤمنين عندك أباً.. وأوسطهم عندك أخاً، وأصغرهم عندك ولداً؛ فوقِّر أباك، وأكرم أخاك، وتحنن على ولدك.. وقال له رجاء بن حيوة: إن أردت النجاة غداً من عذاب الله عزَّ وجلّ .. أيضا فأحب للمسلمين ما تحب لنفسك، وأكره لهم ما تكره لنفسك، ثم مت إذا شئت.