الإخوان المسلمون بين المقاومة والاحتراب الأهلي
بقلم/ عادل الأنصاري
يتزايد الحديث كثيرا ويحتد النقاش في أروقة العمل الإسلامي قبولا ورفضا وإشادة وإدانة حول موقف جماعة الإخوان المسلمون من مصطلح السلمية الذي أطلقته الجماعة، وعبر عنه المرشد العام الحالي للجماعة الدكتور محمد بديع بقولته الشهيرة ” ثورتنا سلمية .. سلميتنا أقوى من الرصاص”.
وقد أثارت المقولة التي أطلقها المرشد العام جدلا واسعا وصل إلى حد السخرية حينا والدفاع عنها كثيرا، إلا أن هناك خلطا حدث في التعامل مع المصطلح، دفع الكثيرين إلى الاختلاف حول فهمه، والوقوف على دوافعه وأسبابه والتعاطي مع آثاره وتأثيراته.
وبداية الخلط يحدث عندما تتم المقارنة بين تجارب متعددة لكل منها معطياتها وأبعادها وطبيعتها، فمع بدايات معركة الطوفان ظهر الجدل مجددا حول جدوى السلمية التي طرحها المرشد العام، مقارنة بما حدث في السابع من أكتوبر والإنجاز الذي أحدثته المقاومة في اختراق الحدود الوهمية التي صنعها الاحتلال، وقدرتها على إحداث واقع جديد كان بمثابة الحدث الذي يتم التأريخ به لما قبل الطوفان وما بعده من شدة الأثر.
والحقيقة فإن الخلط بين الأمرين والواقعين واضح، إذ ليس هناك مجالا للمقارنة بين مقاومة الاحتلال بكل السبل المشروعة والذي تعد مواجهته ضربا من ضروب جهاد الدفع الواجب شرعا باتفاق العلماء، بل وباتفاق كل المواثيق والأعراف الدولية، وبين الاحتراب الأهلي وإحداث مواجهات دامية داخل البلدان الإسلامية بعيدا عن الأسباب والدوافع.
الإخوان المسلمون بين المقاومة والاحتراب الأهلي
والقراءة الواقعية لمنهج جماعة الإخوان المسلمين في التفرقة بين الأمرين تكاد تحسم الأمور، وتجعلنا أمام حقيقة واضحة لا التباس فيها، حيث يشهد التاريخ مشاركة ومباركة جماعة الإخوان المسلمين لكل جهود المقاومة، ومواجهة المحتل إذا حل بأي قطر إسلامي.
والشواهد على ذلك بيّنة واضحة بداية من قضية الأمة المركزية في فلسطين والتي خرجت جماعة الإخوان المسلمين بقضها وقضيضها، وجيشت الجيوش وحركت المجاهدين في بواكير الأحداث التي شهدتها فلسطين قبل وأثناء إعلان قيام دولة الكيان الصهيوني.
وامتدت الجهود بصيغ متعددة في حرب أفغانستان وحرب البوسنة والهرسك واحتلال العراق والشيشان وكوسوفا وغيرها من البلدان الإسلامية التي شهدت اهتماما واسعا من جماعة الإخوان المسلمين، بل ومشاركة في الدعم والإسناد عندما حل الاحتلال الأجنبي في أي قطر إسلامي.
وفي المقابل كانت الجماعة تتوخى الحذر الشديد إذا كانت المواجهة بين أقطار إسلامية أو بين مكونات أهلية داخل القطر المسلم، حيث يتغير الحكم في هذه الحالة لينتقل من تحبيذ ودعم المقاومة في الحالة الأولى وبكل قوة ، إلى الرفض القاطع لفكرة الاحتراب الأهلي، خاصة ذلك الاحتراب الذي يؤدي إلى انقسام المجتمع والقضاء على كافة مقوماته وقدراته وبنيته التحتية وتحديدا في البلدان التي تتسم بالانسجام المجتمعي بعيدا عن الطائفية المقيتة.
حينها يكون الحكم رافضا لفكرة الاقتتال الداخلي والولوج إلى معترك مواجهات دامية لن تصب في مصلحة القطر الإسلامي، بل ستؤدي إلى تحول البلاد إلى ساحة مواجهة أهلية دامية، وتتحول إلى أرض خصبة ينفذ منها الأعداء ويحتل قطاعات منها، وتتحول الدولة إلى كانتونات ممزقة تتفرق وتنقسم مكوناتها.
الإخوان المسلمون بين المقاومة والاحتراب الأهلي
وإذا أردنا أن نُجمل الآثار السلبية للاقتتال الداخلي والاحتراب الأهلي بين مكونات القطر الواحد على مجمل الأمن القومي للأمة الإسلامية، بما يمثل الأسباب الدافعة للتوجه بعدم الانخراط في حرب أهلية، ومن ذلك:
- إضعاف مقدرات الدولة ، وهنا نفرق بين الدولة بكل إمكاناتها من شعب وأرض ومؤسسات حكم، وبين النظام أو الحكومة التي يتوجب تغييرها مع توفر إرادة شعبية جامعة.
- استدعاء الاحتلال الأجنبي للدخول تحت ذرائع مختلفة إلى الدولة، والتمكن من مقدراتها تحت غطاء الوقوف مع الأطراف المتصارعة، وبالتالي تتحول الدولة إلى ساحة احتراب عالمية.
- تقسيم جغرافية الدولة ، حيث يكون للتدخل الأجنبي أثر بالغ في صناعة أدوات تأثير ومناطق نفوذ لكل منها تمكنها من السيطرة والبقاء واستمرار الصراع.
- انتقال حيز الصراع من دائرة الخلاف الداخلي، ليتحول إلى ساحة صراع دولية وإقليمية ونقطة ارتكاز للأطماع الأجنبية في ثروات البلاد، ومدخلا لفتح مجال التمويل الذي يستهدف التفريق والتقسيم لكل مكونات الأمة.
- إخراج القطر على المدى القريب والبعيد من معادلة المواجهة مع العدو الصهيوني وإضعاف جهود الإسناد الواجبة نحو القضية الفلسطينية، ولعل هذه النقطة تحديدا توضح أن أحد أسباب رفض فكرة الاحتراب الأهلي هو تهيئة كافة الظروف المتاحة لصالح القضية الفلسطينية حال النجاح في إحداث تغيير في بنية الحكم بالتدافع من خلال تعميق الوعي الجماهيري.
- التأثير على النسيج الاجتماعي وصعوبة استعادة لحمته على المدى البعيد، وصناعة الخصومات العائلية ، خاصة في الدول التي تتسم بالانسجام الشعبي بين مكوناتها والتي تتشكل فيها أجهزة الدولة ومؤسساتها من مجمل المكون الشعبي للقطر وليس بتشكيل طائفي فئوي.
- خديعة قطاعات واسعة من المكون الشعبي بدعاية الأنظمة الاستبدادية وانحيازها له بدعوى الانحياز للدولة، بما يجعلها في مرمى الاقتتال وبما يوقع كل الأطراف في الحرج الشرعي بإزهاق أرواح عموم المسلمين .
بين الإفراط والتفريط
إن التوجه المذكور باستبعاد الانخراط في احتراب أهلي يطرح سؤالا جوهريا : هل الحل هو مهادنة الاستبداد والفساد والقبول بأعراض الخيانة البادية لدى عدد من هذه الحكومات، أو حتى الاكتفاء بالإبلاغ العام والتحذير المطلق بعيدا عن الإجراء المقيد لإحداث تغيير ملموس في الواقع الذي يفرضه الاستبداد ؟
والحقيقة بإمكاننا أن ندرك وجود خط فاصل – ينبئ عنه استقراء تاريخ جماعة الإخوان المسلمون – بين الانخراط في موجات احتراب أهلي من ناحية وبين القبول بالواقع المتعارض مع مصالح الأمة الإسلامية وسعيها الواجب للانعتاق من قيود الاستبداد، والانطلاق في آفاق النهضة، بهدف استعادة مكانة الأمة واستئناف دورها الحضاري.
وتتضح معالم هذا الخيط الفاصل من انخراط جماعة الإخوان المسلمين في حالة تدافع واسع مع هذه الحكومات وعدم الانصياع لمخططاتها أو القبول بمنطقاتها والتحرك الواسع من أجل إزاحتها عن المشهد من خلال صناعة حالة من الوعي البناء لدى مكونات الأمة تسمح بأن تستلم الشعوب دفة الأمور، وتمتلك ناصية قرارها من خلال حقها في اختيار من يحكمها وفقا لمصالحها وبما يتسق مع هويتها.
إعادة تأهيل الأمة
والشواهد على ذلك كثيرة، حيث استغرقت جهود جماعة الإخوان المسلمون على مدار العقود ومنذ تأسيسها في سلسلة من التدافع مع مكونات مشروع الاستبداد والفساد من خلال التسلح بمعركة الوعي، وإعادة تأهيل الأمة بعدد من الأدوات منها:
- الاهتمام ببناء ” التنظيم ” والذي يمثل الكتلة الصلبة من المؤمنين بحق الشعب في الحرية والانعتاق من ربقة الفساد والاستبداد جنبا إلى جنب مع حقه في الاستقلال عن المحتل الأجنبي سواء بسواء.
- الاهتمام بتكوين ودعوة الفرد والأسرة والمجتمع وفقا لرؤية تربوية تنطلق من فهم الإسلام فهما شاملا، يجمع بين الإيمان العميق والعبادة الصحيحة والشريعة بكل مكوناتها التي تلتحم بواقع الحياة ولا تنفصل عنه، والحفاظ على هوية الأمة وإرداتها الجامعة لتحقيق وحدة الهدف والمصير والعمل على إبلاغ رسالة الإسلام للعالمين.
- السعي الدؤوب لتأمين إرادة المجتمع ورغبته في حماية هويته والانحياز إلى مقومات دينه من خلال حراك وتدافع سياسي يفرز واقعا جديدا، يحقق الانسجام بين تلك الإرادة الشعبية الجامعة وبين النخب الحاكمة لتكون معبرة عنها بشكل دقيق.
- السعي الدؤوب لتأمين الأمة من مخاطر الاحتلال الأجنبي ودفع مخاطره وشروره عن البلاد.
- بذل الوسع والطاقة في نشر الوعي بين مكونات الأمة بالمخاطر التي تحيط بها على كافة المستويات الداخلية والخارجية ، وصناعة الوعي من خلال حراك إعلامي شامل ودعوي متكامل وفكري متجانس.
إن الآثار الخطيرة والمعاناة الواسعة على أصحاب المشروع الإسلامي من جراء رفض فكرة الاقتتال الداخلي والتي تتمثل في سجون واعتقالات ومطاردات ومصادرات وحملات تشويه واسعة، يمكن أن تمثل الخسارة الأقل حالما غاب الخيط الرفيع الفاصل بين الاحتراب الأهلي من ناحية، وبين مقاومة الفساد والاستبداد من ناحية أخرى، بما يؤدي إلى هدم خريطة الواقع السياسي للأمة وإبعادها عن أهدافها، وعرقلة جهودها في استنئاف دورها الحضاري عقودا من الزمان.