يناير وجو الميدان والألفة بين الطوائف ،وجو الأخوة والتعاون، ونظافة الشوارع ، وغسلها بالماء والصابون ؛ دلالة على حب تنظيف البلد من الجذور . والأغاني التي ولدت من رحم كل هذه الأجواء ، والروح العالية الوثابة ،والتطلع للمستقبل ،ثم هُدِم كل هذا مرة واحدة ؛ فهدم معه النفس والروح وهدم الأمل والطموح ، ولكن أحيانا تأتي الخواطر: هل فعلا تم القضاء نهائيا على هذه الروح؟ أم من الممكن استعادتها ؟؟ ويلح هذا السؤال دوما ويظل يجول في الخاطر ، وتبدأ الأفكار …. ولهذا فكرنا..
هل من الممكن أن نستعيد ثورتنا والربيع العربي ؟
إنه السؤال الأصعب دوما الذي يتردد .. فأولا: ينبغي أن نفرق بين الثورة والربيع العربي، فأما الربيع العربي فقد مضى وانقضى وولت أيامه وأدبرت لياليه ؛ إذ لم يكن سوى موجة من موجات الثورة التي يجب أن تبقى ولا يجوز لها أن تموت وتفنى ، فلله الحمد أولا وآخرا والذي ينبغي أن نعتقده ثم نستعصم به ؛ لننطلق من منصته بخطى ثابتة هو أن الثورة مستمرة ، وأن النصر قادم ؛ فنصوص القرآن ومعطيات الواقع يؤكدان ذلك أعظم التأكيد، فأما نصوص القرآن والسنة فمعلومة لدى الكافة ، وأما معطيات الواقع فظاهرة لمن كان له وعي لم تشوهه الهزيمة النفسية.
فالحديث إذا ليس عن مجيء النصر من عدمه ؛ فهو قادم لا محالة، وإنما الحديث عن الشروط التي تقرب البعيد وتقلل الكلفة، ولا ريب أن المسار إذا استقام باستيفاء الشروط وانتفاء المعوقات ، فإن الغاية تدنو والكلفة تبلغ أقصى انخفاض لها ، فما هي شروط استعادة المسار وبلوغ الانتصار؟ هذا هو السؤال الجدير بأن نفسح للإجابة عنه من أوقاتنا وجهدنا ما يليق به.
الشرط الأول:
وتمثل الخطوة الأولى المنسية الشرط الأول لاستعادة الثورة، فمادامت مهدرة فسعينا كله هدر، وما دمنا متجاهلين لها فستبقى خطواتنا ما هي إلا سيرا للوراء، لا ندنو من الغاية إلا بقدر ما يدنو الماشي للخلف من غايته ، فلابد قبل كل شيء من المراجعة الجماعية الرشيدة، هذه هي الخطوة الأولى التي تخطيناها ، وليس المقصود بالمراجعة تلك المقاصل التي اعتاد الجميع أن يشنقوا تجاربهم على أعوادها، فليس من المعقول ولا المقبول أن يقال: إن تجربتنا السياسية فشلت لأننا ضللنا السبيل حين ولجنا ذلك الميدان، أو فشلت لأننا أجرمنا في حق ديننا وأمتنا حين سلكنا هذا السبيل، وأننا فشلنا في الدعوة والتربية وطلب العلم والتعليم لأننا لا نصلح لذلك ولسنا من أهله؛ فأي سبيل نسلك إذن؟ وفي أي طريق نسير؟! وهذه حصرا هي السبل المؤدية على الافتراق أو الاتفاق إلى النصر والتمكين!!
الحقيقة أن هذه السبل ممهدة وموطدة لسالكيها، لكن الفشل له أسباب أخرى، على رأس هذه الأسباب أننا نسلك هذه السبل متفرقين متنازعين بلا مشروع يجمعنا ولا رؤية تحدد وجهتنا، ويليه سبب نغض الطرف عنه دائما عن مواجهته ، وهو ذنوبنا الحركية، تلك الذنوب الموبقات التي تستوجب المبادرة إلى التوبة ، فنحن أكثر من خالف مقتضى هذه الآية الكريمة: (وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ) (هود 113)، وكذلك مقتضى هذه الآية الحكيمة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) (آل عمران 118)، ونحن من تجافى عن المنهج الإلهي في التعامل مع الناس: (لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ) (الحجر 88)، والدليل على أننا لم نتب بعد هو ذلك اللهث وراء كل غاد ورائح وهي سلوكيات لا يتردد من يراها ويرانا مصرين عليها في أن يشير إلينا بهذه الآية: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) (الأنعام 28)
الشرط الثاني:
فهو توسيع رؤيتنا للمشهد ؛ فالثورة لم تمت برغم كل ما جرى، ومسارها أكبر من الأحداث التي بدأت ب 25 يناير 2011م ، فالثورة بدأت بمقاومة الاحتلال المباشر ولن تنتهي إلا بإنهاء الاحتلال بالوكالة، وهي ليست ثورات تتعدد بتعدد الحدود ؛ وإنما هي ثورة واحدة تمتد موجاتها في أماكن وتنحسر عن أخرى بحسب العوامل التي مهما كثرت وتباينت لا يمكن أن تعكس اختلافا في مزاج الشعوب العربية والإسلامية.
الشرط الثالث:
و الشرط الثالث لاستعادة الثورة لا يتم إلا بأمرين متلازمين: الأول الانبثاق والانطلاق من القرآن، الثاني: مراعاة السنن الإلهية، فنحن أمة لها كتاب ودستور، ولها كذلك سنن إلهية خاصة تضاف للسنن الإلهية العامة التي يجب أن تراعيها، والقرآن الكريم الذي نزل على مدى ثلاثة وعشرين عاماً مليئة بالأحداث التي استوعبت كل مراحل المشروع الإسلامي هو وحده المرجعية الملبية لكل مطالبنا والمغذية لكل مراحل مسيرتنا ؛ لابد من الرجوع إليه والانطلاق من تعاليمه وعدم مخالفته بحال من الأحوال ، ولابد كذلك من مراعاة السنن الإلهية العامة والخاصة ، كسنة التدافع: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) (البقرة 251) وسنة التداول: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) (آل عمران 140) وسنة التمحيص والتخليص: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) (آل عمران 179) وغير ذلك الكثير .
الشرط الرابع:
هو النجاح في تحقيق الحد الأدنى من الوحدة الإسلامية ، ذلك الذي لا يتحقق إلا بتوحيد البوصلة وحسن إدارة الاختلاف، ثم التفريق بين المبادئ التي يجب أن نتفق عليها والآليات التي تختلف من زمان لآخر ومن حال لآخر، وتتنوع لتلبي اختلاف الاستعدادات والمواهب ولتتواكب مع المعطيات المختلفة، هذه الوحدة هي واجب الوقت، وهي ممكنة التحقيق في حدها الأدنى الذي أشرنا إليه هنا، والعمل بها أو الإهمال لها هو المحدد لدرجة استجابتنا للآية التي تستثير شجوننا كلما تلوناها أو استدعيناها: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران 103).
الشرط الخامس:
بناء المشروع المعبر عن هوية الأمة ، ووضع الرؤية المحددة لوجهتها ، والنابعة من صلب حضارتها وثقافتها ، فمشروع الأمة فهو الذي يلتقي عليه جمهور علماء الأمة وجمهرة كبارها وأخيارها وخبرائها، وكل ما كتب من قبل مجرد اجتهادات فردية لا ترق لمستوى المشروع ولا تمثل الرؤية التي تنير للأمة طريقها، ولا ريب أن هذا يتطلب عملا جماعيا لا تحتكره جماعة ولا يهيمن عليه حزب ولا يستأثر بصناعته مكون دون آخر؛ مما يؤكد ضرورة تحقيق الوحدة في حدها الأدنى الذي تحدثنا عنه من قبل .
والمشروع الإسلامي لا يتم إلا بالتطرق إلى محاور عديدة ، المنطلقات والغايات، الوسائل والأدوات، المحفزات والمعوقات، التحديات والآمال، الخطوات والمراحل، الشروط المتعلقة بكل مرحلة، القوى الرافعة والطاقات الدافعة، التصور الكامل للمفردات والمصطلحات الكبيرة: الثورة والتغيير ، الحرية والمسئولية المجتمعية ،العدالة الاجتماعية ، الدولة والحكم ، السلطة والسيادة ، الشرعية وسيادة القانون ، تحكيم الشريعة ، حقوق الإنسان ، توزيع الثروة ، شروط النهضة ، المواطنة والسلم الاجتماعي ، العلاقات الدولية، المجتمع الدولي والتمكين ، النظام العالمي…..
الشرط السادس:
الحفاظ على الأرصدة والمكتسبات، فالشباب والهوية والمنهج ، والعقيدة ، والتراث والفطرة والحياء والنخوة وغيرها أرصدة أودعها الله تعالى في دواوين أمتنا، أما الوعي فمكتسب من المكتسبات ، وكذلك الشرعية ، وتراكم الغضب مكتسب لا يستهان به، وهناك مكتسبات كثيرة أخرى يجب الحفاظ عليها .
هذه شروط أساسية لنجاح الثورة ؛التي قامت ولم تكتمل وهذه الشروط قد تختلف في بعض بنودها عن الثورات التي قامت على مر الزمان؛ بسبب اختلاف الهدف الرئيسي عن اهداف الثورات السابقة ؛فهذه الثورة وإن بدت ثورة مدنية للحصول على العيش والحرية إلا أنها قد تبلورت سريعا لتصبح المشروع الأسمى والأعظم في حياة البشرية ،والتي ستؤول يوما إلى ما قد وعدنا به من المولى عز وجل داعين إياه أن نكون من جنودها مستخدمين لا مستبدلين .