استشهاد أنس الشريف
أنس الشريف.. الصوت الذي لم يصمت حتي اللحظة الأخيرة
إن وصلتكم كلماتي هذه، فاعلموا أن الاحتلال قد نجح في قتلي وإسكات صوتي”.. هكذا استهل الصحفي الفلسطيني أنس الشريف وصيته التي كتبها قبل 126 يومًا، إيمانًا بأن يومه آت لا محاله، وأن يد المحتل الغادرة لن تتركه يعبث بسردياتها المضللة هكذا دون اصطياد ممنهج يٌكرس ساديتها العنصرية وفاشيتها التي تجاوزت وحشيتها حدود الاستيعاب والإدراك.
أنس.. ابن جباليا الأبية، المجدلي الجذر، صاحب الابتسامة البكر، والصوت الأجش، المراسل الجرئ، والصحفي المؤمن بقضية بلاده، الذي ظل منذ بداية الحرب صوت غزة ووجهها وعنوانها ولوحتها، صاحب التجربة الأطول من عمره، التي زلزلت عرش الكيان المحتل بعدما فضحت أكاذيبه وأسقطت أقنعته التي استمات لعقود في تمريرها، فما كان منه إلا أن استهدفه بصاروخ دقيق، فاقد للإنسانية، مجرد من المشاعر، محمل بقنابل الحقد والكراهية والعنصرية، نسف خيمته برفقة عدد من زملاءه، مساء الأحد 10 أغسطس/آب 2025.
تحول الشريف في غضون وقت لا يساوي في حساب الزمن لحظات إلى عنوان غزة الكبير، كان صوته سهامًا نافذة تصيب كبد الحقيقة، ورصاصًا خارقًا يفجر أمعاء الكذب ويٌنزف أوردة التضليل المتعمد، كان صوت العامة من الجوعى والمشردين، حين بٌح صوتهم، ومرآة العالم على القطاع حين ارتأى الجميع السلامة، كان بجسده، الذي نحفه الجوع وهده التعب، نموذجا مصغرًا لحال غزة وأهلها.
صمد الأنيس الأنس لأكثر من 650 يومًا في مواجهة جيش بأكمله، فأجهض بصوته مخططاته، ووأد ببسالته مؤامرته، فكان الرمز والدلالة، وحوّل الكلمة المجردة إلى خنجر في ظهر العدو، والصورة إلى صندوق أسود يكشف نازية المحتل ويفضح فاشيته التي حاول إخفائها بشتى السبل، ليتحول المراسل الشريف من ناقل للخبر إلى خبر في حد ذاته.. لكن القصة لم ولن تنته..
استشهاد أنس الشريف
مشروع شهيد مٌبكر
قبيل حرب غزة لم يكن أنس معروفًا للعامة، ولم يكن اسمه مدرجا على قوائم مشاهير التغطيات الإعلامية في القطاع، في بداية تلك المعركة النازية، حيث الأجواء الملتهبة، والموت أقرب من الحياة، مارس الاحتلال أقصى درجات البطش، وجرفت آلته العسكرية كافة مقومات الحياة في الشمال، ودفع الناس قسرًا وقهرًا للنزوح، تنفيذًا لمخطط التهجير.
في ذلك الوقت سقطت الكثير من الألوية الإعلامية، وتوهم المحتل الغاشم أنه بات بمأمن عن افتضاح أمره وكشف انتهاكاته، فتحرك بأريحية كاملة، حيث لا إعلام ينقل الصورة، ولا موقف عربي إقليمي يعول عليه، ولا أمل في مجتمع دولي لا يستأسد إلا على الضعفاء، حينها ظهر شاب نحيف البنية، ذو صوت بكر، أبى أن ينعم الاحتلال بما توهم أنه انتصار.
ومن ملح أرض جباليا ومخيمات الشمال.. حيث جاء صوت الشريف.. من تحت الركام ومن بين الأشلاء.. أيضا معلنًا بصوت صداح.. “التغطية مستمرة”.. ليقدم نفسه على جناح السرعة كصوت المكلومين في الشمال.. ومرآة العالم على انتهاكات.. كذلك وجرائم جيش الاحتلال في تلك البقعة.. التي حاول نتنياهو وجنرالاته طمسها .. أيضا من فوق الخارطة في صمت ودون ضجيج.. إلا أن أنس كان له رأي أخر.