في 22 سبتمبر (أيلول) عام 1842 ولد السلطان عبد الحميد الثاني في مدينة إسطنبول . كابن للسلطان عبد المجيد الأول والسلطانة تيرمُجكان عاش وكبر بحكم توقيت ولادته خلال ما يعرف بحقبة الإصلاحات والتنظيمات في الدولة العثمانية،
فقد ولد السلطان عبد الحميد الثاني في وقت كانت الدولة العثمانية تصارع فيه على أكثر من جبهة ساخنة، فمن جهة كان السياسيون العثمانيون يعملون جاهدين لحل الأزمة المندلعة في مصر منذ عام 1839 والحرب مع محمد علي ومحاولة الحد من آثار هذه النزعة الانفصالية على الدولة وباقي أراضيها،
عبد الحميد الثاني يتمتع بذاكرة قوية كان السلطان عبد الحميد الثاني رجلا هادئ المزاج، وكان ينحني قليلا إلى الأمام عندما يمشي أو يجلس. كان يستمع كثيرا ويتكلم قليلا، وكان يبدي احتراما للذين يتحدثون معه، وكان لطيفا مع الجميع، بارعا في معرفة أفكار وأحاسيس الآخرين، ويتمتع بذكاء قوي.
متى وكيف تولى الحكم ؟
لم تكن ظروف تسلمه لمقاليد السلطة أقل دراماتيكية من ظروف ولادته، فقد جاء إلى الحكم في صيفٍ ساخن سياسيًا في 31 أغسطس (آب) عام 1876 بعد خلع عمه السلطان عبد العزيز عن الحكم ومقتله، ومن ثم عزل أخيه السلطان مراد الخامس بعد أقل من ثلاثة أشهر من تسلمه للسلطة بذريعة الجنون. فتم تنصيبه السلطان الرابع والثلاثين من سلاطين الدولة العثمانية، والسادس والعشرين من سلاطين آل عثمان الذين جمعوا بين لقبي الخلافة والسلطنة في إسطنبول، وآخر من امتلك منهم سلطة فعلية.
وبعد ذلك بوقت قصير، تم إعلان أول دستور للدولة العثمانية الذي عرف باسم “القانون الأساسي”، في 23 ديسمبر/كانون الأول 1876.
واجه السلطان عبد الحميد العديد من المشاكل فور اعتلائه العرش، ولعل أبرز تلك المشاكل كانت إعلان روسيا الحرب على الدولة العثمانية في 24 أبريل/نيسان 1877.فقد استهل الخليفة الشاب حكمه بمطالب الدول الأوروبية بتحسين ظروف رعايا الدولة من النصارى، فأحال المطالب إلى مجلس “المبعوثان” – البرلمان العثماني -الذي رفض هذا التدخل السافر في الشؤون الداخلية، الأمر الذي اعتبرته روسيا مبررا لإعلان الحرب بمباركة أوروبية؛ فاحتلت بلغاريا ، ووصلت أدرنة ، مما شجع الصرب الساخطين أيضا على التمرد.
سر تلقيبه بالخليفة الطاغية
وفيما يشبه حالة الطوارئ، قرر عبد الحميد حل مجلس المبعوثان إلى أجل غير مسمى ليعالج الأزمة على طريقته، فوجد خصومه الأوروبيون مبررا آخر لوصمه بالطغيان والاستبداد وتحريض معارضيه على التمرد، مما دفع عبد الحميد بالمقابل إلى التصعيد وتشكيل جهاز أمن سري، مضحيا بالمزيد من الحريات في بلاد متعددة الأعراق والطوائف.
ومع انقضاء العقد الأول من حكمه، كانت معظم أراضي البلقان قد انفصلت عن الجسد الإسلامي وتوزعت على موائد النمسا وروسيا. وما إن وضعت الحرب العثمانية الروسية أوزارها حتى كانت خطط التقسيم ومطامع الانفصال قد نضجت في عقول أصحابها، فاحتلت فرنسا تونس، واحتلت بريطانيا مصر رغم مقاومة أهلها، وتمردت الحركة المهدية لتنفرد بحكم السودان.
وفي مطلع القرن العشرين، تجددت الثورات فيما بقي من البلقان، ولم يكن الجيش العثماني قد فرغ بعد من إخماد حرب في اليونان ليشتبك مع عصابات المتمردين في مقدونيا، وسط ضغوط أوروبية لا تتوانى عن المطالبة بالمزيد من الحريات في الأقاليم المستعصية.
أدرك الأوروبيون أن أقصر طريق للقضاء على “الرجل المريض” هو تسميمه من الداخل، فبالتوازي مع الحروب وحالات التمرد والعصيان، كانت أوروبا تستثمر في مجموعة من طلاب المدارس الحربية الذين تشربوا الفكر الغربي في المحافل الماسونية، وعلى رأسهم يهود الدونمة الذين اتخذوا من التظاهر بالإسلام سياسة لهم منذ القرن السابع عشر واستوطنوا مدينة سالونيك.
في عام 1889، وبالتزامن مع مئوية الثورة الفرنسية، شُكلت في باريس جمعية سرية تحت مسمى “الاتحاد والترقي”، وجعلت على رأس أهدافها عزل عبد الحميد والقضاء على الخلافة وتكريس الحكم العلماني على الطريقة الفرنسية
ومع أن السلطان انتبه إلى مخططاتهم عبر أجهزته الأمنية، وعمل على استمالة الكثير منهم بالمناصب والملاحقة والضغوط، فقد نجح بعضهم في مواصلة المشروع مستفيدين من الدعم الأوروبي السخي ، ومن رعاية الأقليات النصرانية التابعة للدولة، وكانت النقطة الفاصلة بانشقاق الجيش الثالث في سالونيك، وانضمام أنور باشا ومصطفى كمال (الذي صار لاحقا أول رئيس علماني لتركيا) إلى الثورة.
وبالتوازي مع هذه المؤامرات، كان اليهود يكثفون محاولاتهم لانتزاع “أرض الميعاد”، بدءا بإغراء السلطان بالمال فور اعتلائه العرش مقابل إسكان اليهود في فلسطين، ولم تتوقف عروضهم السخية بالمال والوساطة لدى أوروبا. رغم إصرار السلطان على رفضها،بل ومنعه اليهود حتى من دخول القدس، مما دفع قائد الحركة الصهيونية تيودور هرتزل إلى إعلان نواياهم في مؤتمرهم الأول في بازل السويسرية عام 1897، الأمر الذي واجهه عبد الحميد بالمزيد من التضييق والمنع.
اكتمال المخطط
في عام 1905، حاول الأرمن -كما تذكر بعض المصادر- اغتيال عبد الحميد بقنبلة إثر خروجه من المسجد، وخلال السنوات القليلة التالية كانت الجمعيات السرية تسابق الزمن لتقليص نفوذ الخليفة، الذي يمم وجهه نحو العالم الإسلامي المثقل بجراحه رافعا شعار الوحدة الإسلامية، بينما كانت جمعيات سرية أخرى تتشكل في باريس وبرلين لتشجيع العرب على الانفصال واللحاق بقاطرة العلمانية.
وفي 1909 كانت فصول المؤامرة قد اكتملت، وتقدم اليهودي قره صوعمانوئيل وفدا من أربعة خصوم لتسليم الخليفة قرار عزله وتعيين أخيه الضعيف محمد الخامس في مكانه.
نفي عبد الحميد إلى سالونيك، مقر الماسونية العثمانية، إمعانا في إذلاله. وبعد ثلاث سنوات نُقل إلى قصر بكلربكي في إسطنبول إثر اندلاع حرب البلقان الأولى، وبقي قرابة خمس سنوات شاهدا على اكتمال مخطط القضاء على الخلافة، ثم أغمض عينيه قبل تسعة أشهر من انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقبل ست سنوات من إعلان مصطفى كمال إحلال العلمانية محل الخلافة الإسلامية.حيث توفي في العاشر من فبراير/شباط 1918، ، وبتعليمات من السلطان رشاد تم دفنه بعد يوم من وفاته في مقبرة السلطان محمود الثاني، بعد مراسم تأبين خاصة بالسلاطين.
انتهت قصة ذلك السلطان العظيم الذي لم تنته إلى الآن تأثير ما فعله فكان لابد لنا من الوقوف في ذكراه الرابعة بعد المائة لنتذكر اكبر قصة كفاح ضد أعداء الإسلام فهو الأكثر تعرضا لحربهم على الإطلاق .وإن كان هناك درسا تعلّمه تجربة العثمانية في الحكم، فهو أن الحكام عليهم أن يفكروا في تبعات سياساتهم على مستقبل شعوبهم وأوطانهم لمائة عام في المستقبل، وأن يحافظوا على ما ورثوه من الأجيال السابقة بتنميته وإدارته على مبدأ زرعوا فأكلنا، ونزرع فيأكلون.