ومازال للحديث عن الاختلاف بقية فقد تحدثنا قبل ذلك عن الفرق بينه وبين الخلاف، وأيضا الحكمة من وجوده في كل ما هو كائن، وعن إمكانية صواب رأيين مختلفين، وتحدثنا أيضا عن بعض آداب الاختلاف. وسنكمل هنا ما بدأناه فيما سبق ونتحدث عن آداب الاختلاف:
وسنجمل ما سبق في الأتي حتى يسهل علينا إلمامه :
فأخلاقيات الاختلاف في كيفية التعامل أخلاقيا مع الرأي الأخر :تتلخص في احترام الآخر و عدم سوء الظن وكذلك عدم غيبته و عدم تصيد أخطاءه .
أما الآداب العلمية للاختلاف : فنحن كثيراً ما نحكم بعدم صلاحية الآخر، ونرشقه بالتهم والسباب دون أن نطلع على رأيه وفكره، ومن المعلوم أنه للحكم على أي قضية أو رأي فلابد من:
1ـ معرفة هذه القضية بكل جزئياتها وحيثياتها، وهذا إنما يتأتي بعد القراءة الدقيقة والتامة لتلك القضية المراد الحكم عليها.
2ـ القدرة على المحاكمة أو إبداء الرأي:
– أننا نطلق الأحكام على عواهنها دون الرجوع إلى مرجعيات علمية تحدد مفاصل هذه القضية- -والبعض منا يقرأ الأخر وهو لا يملك المقومات، كالقدرة على الحكم والمخاصمة، أو على فهم النصوص فيقتطع النصوص ويفصلها عن سياقها الموضوعي معتمداً في ذلك على ما لديه من معرفة سطحية.
– وقد يبلغ الأمر بالبعض منا أحيانا حد التصريح بنقطة الاختلاف مع الآخر ويدخلها في دائرة الخلاف بين الحق والباطل.
3ـ الموضوعية وإنصاف الرأي الآخر :
وهذا يحتاج إلى الكثير من التنازل عن الأنا وهي الذات ، وصنمية الأفكار والأشخاص فليس من السهل أن يكون الإنسان موضوعياً ومنصفاً تجاه الآخر المختلف.
ومن الإنصاف أيضاً التعرف على الرأي الآخر وشرحه كما لو كان هذا الرأي هو رأي الجهة التي أقدس فكرها ورأيها كما هو حال بعض أهل الفكر.
4 ـ البحث عن الحقيقة:
فالحقيقة هي الغاية التي ينبغي أن تكون المنشود الذي يبحث عنه الإنسان فهي ضالة المؤمن يأخذها متى وجدها ،وهذا يعني التجرد التام عن كل ما من شأنه أن يعيق حركة الإنسان في بحثه ،والقرآن يذكرنا بقوله تعالى : (وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين).وينبغي أن يكون الوصول إلى الحقيقة ديدن الجميع وان كانت تخالف مشاربهم ومسالكهم في الحياة .
أما آداب الاختلاف الاجتماعية :
وهي أهم ما ينبغي التأكيد عليه هنا وهو أن : نُسْلِمَ بحالة الاختلاف وتأثيراتها على الواقع ،مع النظر إلى أننا لا يمكن أن نلغي الاختلاف بين البشر مهما كانت الجهود كما يقول القرآن (ولذلك خلقهم)؛ لأن الاختلاف امتحان إلهي ينبغي تجاوزه بعيداً عن السلبيات التي يمكن أن تنتج أثناء الممارسة وهنا لابد من مراعاة الأمور التالية:
- التكيف وقبول الاختلاف:
ونقصد به أن نُقلِمَ النفسَ ونكيفها مع هذا التكيف ،ليس فقط في الفكر والرأي بل في كل وجودنا، وعن طريقه يمكننا أن نحقق التعايش الإيجابي.
والتكيف يعني قبول الآخر واعتباره عامل إثراء ويمكن الاستفادة منه في خلق حالة من التنافس الإيجابي بين أبناء المجتمع ؛لتقديم كل ما هو أفضل من فكر ورأي ؛لتطوير العمل والفكر والدعوة .
- عدم إسقاط الآخر اجتماعيًا :
فينبغي أن يضمنها كل منا للأخر، بحيث لا يتعدى عليه اجتماعيًا ،فلا يمكن تطوير المجتمع مع الانشغال بإسقاط الآخر.
مع التأكيد على أن المجتمعات الأخرى تضمن هذا الحق في أعلى مراتبه ؛لأن الرأي الآخر لا يوجد التصارع والفرقة ،إنما يولد التنافس وتقديم الخدمات ؛فكلما كثرت الآراء وتلاحقت مع بعضها تولد الصواب؛ لأن الصواب إنما يتولد بضرب الرأي بالرأي، ومن أجل ذلك كله ينبغي تقديس الرأي الآخر.
والحال أن بعض واقعنا لا يكتفي بعدم قبول الآخر، إنما يتجاوز ذلك إلى إلقاء الإسقاطات النفسية والاجتماعية على كاهل الآخر، ومما يؤسف أننا نعيش حالة من اللا تدين في الاختلاف، بحيث ينشغل بعضنا بإسقاط الآخر ،ومحاولة إقصائه عن ساحة العمل الإسلامي.
- حق إبداء الرأي:
وهو حق مكفول في الإسلام للجميع ، ما دام في إطاره الإيجابي، فكما يحق لطرف إبداء رأيه بكل فسحة دون أن نفرض عليه قيود الحجر ،فكذلك يحق للأخر، وحتى لا نعيش الازدواجية والمزاجية، بحيث يحق لي ما لا يحق لغيري، ولا يحق لغيري ما يحق لي فلابد من إفساح المجال للأخر في إبداء رأيه.
ومن منطلق حرية الفكر وإبداء الرأي، كثرت المذاهب والآراء والمدارس المختلفة .
وأخيرا فإن الاختلاف لابد منه وهو كائن قديم ـ كان ولا يزال ـ يعيش معنا وينبغي أن نسلم به ونتكيف معه ونحاول تطويره والانتقال به إلى الحالة الإيجابية ،وأن يكون هدفنا جميعًا البحث عن الحقيقة، متسلحين بنقد الذات قبل الآخر، سواء كان فكرا أو رأيا أو شخصا.
وفي سيرة الرسول صل الله عليه وسلم وأهل البيت وسيرة السلف الصالح الكثير و الكثير مما ينبغي التأسي بهم ،كما قال القرآن الكريم (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)
وبهذا فقط يمكن أن نحقق الذات العليا وأن نتعايش مع الآخر.
وبذلك نكون قد ألممنا بمعظم آداب الاختلاف بيننا علنا نصل للغاية منه .